تفسير سورة ص كامله
{
1 - 11
} {
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ *
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ
كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا
عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَؤُنْزِلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ * جُنْدٌ
مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
}
هذا بيان من اللّه تعالى لحال القرآن، وحال المكذبين به معه ومع من جاء
به، فقال: {
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ
} أي: ذي القدر العظيم والشرف، المُذَكِّرِ للعباد كل ما يحتاجون إليه من
العلم، بأسماء اللّه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكام اللّه الشرعية،
ومن العلم بأحكام المعاد والجزاء، فهو مذكر لهم في أصول دينهم وفروعه.
وهنا لا يحتاج إلى ذكر المقسم عليه، فإن حقيقة الأمر، أن المقسم به وعليه
شيء واحد، وهو هذا القرآن، الموصوف بهذا الوصف الجليل، فإذا كان القرآن
بهذا الوصف، علم ضرورة العباد إليه، فوق كل ضرورة، وكان الواجب عليهم
تَلقِّيه بالإيمان والتصديق، والإقبال على استخراج ما يتذكر به منه.
فهدى اللّه من هدى لهذا، وأبى الكافرون به وبمن أنزله، وصار معهم {
عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
} عزة وامتناع عن الإيمان به، واستكبار وشقاق له، أي: مشاقة ومخاصمة في
رده وإبطاله، وفي القدح بمن جاء به.
فتوعدهم بإهلاك القرون الماضية المكذبة بالرسل، وأنهم حين جاءهم الهلاك،
نادوا واستغاثوا في صرف العذاب عنهم ولكن {
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ
} أى: وليس الوقت، وقت خلاص مما وقعوا فيه، ولا فرج لما أصابهم،
فَلْيَحْذَرْ هؤلاء أن يدوموا على عزتهم وشقاقهم، فيصيبهم ما أصابهم.
{
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
} أي: عجب هؤلاء المكذبون في أمر ليس محل عجب، أن جاءهم منذر منهم،
ليتمكنوا من التلقي عنه، وليعرفوه حق المعرفة، ولأنه من قومهم، فلا
تأخذهم النخوة القومية عن اتباعه، فهذا مما يوجب الشكر عليهم، وتمام
الانقياد له.
ولكنهم عكسوا القضية، فتعجبوا تعجب إنكار وَقَالُوا من كفرهم وظلمهم: {
هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
}
وذنبه -عندهم- أنه {
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
} أى: كيف ينهى عن اتخاذ الشركاء والأنداد، ويأمر بإخلاص العبادة للّه
وحده. {
إِنَّ هَذَا
} الذي جاء به {
لَشَيْءٌ عُجَابٌ
} أي: يقضي منه العجب لبطلانه وفساده.
{
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ
} المقبول قولهم، محرضين قومهم على التمسك بما هم عليه من الشرك. {
أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
} أى: استمروا عليها، وجاهدوا نفوسكم في الصبر عليها وعلى عبادتها، ولا
يردكم عنها راد، ولا يصدنكم عن عبادتها، صاد. {
إِنَّ هَذَا
} الذي جاء به محمد، من النهي عن عبادتها {
لَشَيْءٌ يُرَادُ
} أي: يقصد، أي: له قصد ونية غير صالحة في ذلك، وهذه شبهة لا تروج إلا
على السفهاء، فإن من دعا إلى قول حق أو غير حق، لا يرد قوله بالقدح في
نيته، فنيته وعمله له، وإنما يرد بمقابلته بما يبطله ويفسده، من الحجج
والبراهين، وهم قصدهم، أن محمدا، ما دعاكم إلى ما دعاكم، إلا ليرأس فيكم،
ويكون معظما عندكم، متبوعا.
{
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا
} القول الذي قاله، والدين الذي دعا إليه {
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
} أي: في الوقت الأخير، فلا أدركنا عليه آباءنا، ولا آباؤنا أدركوا
آباءهم عليه، فامضوا على الذي مضى عليه آباؤكم، فإنه الحق، وما هذا الذي
دعا إليه محمد إلا اختلاق اختلقه، وكذب افتراه، وهذه أيضا شبهة من جنس
شبهتهم الأولى، حيث ردوا الحق بما ليس بحجة لرد أدنى قول، وهو أنه قول
مخالف لما عليه آباؤهم الضالون، فأين في هذا ما يدل على بطلانه؟.
{
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
} أي: ما الذي فضله علينا، حتى ينزل الذكر عليه من دوننا، ويخصه اللّه
به؟ وهذه أيضا شبهة، أين البرهان فيها على رد ما قاله؟ وهل جميع الرسل
إلا بهذا الوصف، يَمُنُّ اللّه عليهم برسالته، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى
اللّه، ولهذا، لما كانت هذه الأقوال الصادرة منهم لا يصلح شيء منها لرد
ما جاء به الرسول، أخبر تعالى من أين صدرت، وأنهم {
فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
} ليس عندهم علم ولا بينة.
فلما وقعوا في الشك وارتضوا به، وجاءهم الحق الواضح، وكانوا جازمين
بإقامتهم على شكهم، قالوا ما قالوا من تلك الأقوال لدفع الحق، لا عن بينة
من أمرهم، وإنما ذلك من باب الائتفاك منهم.
ومن المعلوم، أن من هو بهذه الصفة يتكلم عن شك وعناد، إن قوله غير مقبول،
ولا قادح أدنى قدح في الحق، وأنه يتوجه عليه الذم واللوم بمجرد كلامه،
ولهذا توعدهم بالعذاب فقال: {
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ
} أي: قالوا هذه الأقوال، وتجرأوا عليها، حيث كانوا ممتعين في الدنيا، لم
يصبهم من عذاب اللّه شيء، فلو ذاقوا عذابه، لم يتجرأوا.
{
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
} فيعطون منها من شاءوا، ويمنعون منها من شاءوا، حيث قالوا: {
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
} أي: هذا فضله تعالى ورحمته، وليس ذلك بأيديهم حتى يتحجروا على اللّه.
{
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
} بحيث يكونون قادرين على ما يريدون. {
فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ
} الموصلة لهم إلى السماء، فيقطعوا الرحمة عن رسول اللّه، فكيف يتكلمون،
وهم أعجز خلق اللّه وأضعفهم بما تكلموا به؟! أم قصدهم التحزب والتجند،
والتعاون على نصر الباطل وخذلان الحق؟ وهو الواقع فإن هذا المقصود لا يتم
لهم، بل سعيهم خائب، وجندهم مهزوم، ولهذا قال: {
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
}
{
12 - 15
} {
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو
الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ * إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
عِقَابِ * وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا
مِنْ فَوَاقٍ
}
يحذرهم تعالى أن يفعل بهم ما فعل بالأمم من قبلهم، الذين كانوا أعظم قوة
منهم وتحزبا على الباطل، {
قَوْم نُوحٍ وَعَاد
} قوم هود {
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ
} أى: الجنود العظيمة، والقوة الهائلة.
{
وَثَمُود
} قوم صالح، {
وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
} أي: الأشجار والبساتين الملتفة، وهم قوم شعيب، {
أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ
} الذين اجتمعوا بقوتهم وعَدَدِهمْ وعُدَدِهمْ على رد الحق، فلم تغن عنهم
شيئا.
{
إِنْ كُلُّ
} من هؤلاء {
إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
} عليهم {
عِقَابِ
} اللّه، وهؤلاء، ما الذي يطهرهم ويزكيهم، أن لا يصيبهم ما أصاب أولئك.
فلينتظروا {
صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
} أي: من رجوع ورد، تهلكهم وتستأصلهم إن أقاموا على ما هم عليه.
{
16 - 17
} {
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ
*اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
}
أي: قال هؤلاء المكذبون، من جهلهم ومعاندتهم الحق، مستعجلين للعذاب: {
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا
} أي: قسطنا وما قسم لنا من العذاب عاجلا {
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ
} ولَجُّوا في هذا القول، وزعموا أنك يا محمد، إن كنت صادقا، فعلامة صدقك
أن تأتينا بالعذاب، فقال لرسوله: {
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
} كما صبر مَنْ قبلك من الرسل، فإن قولهم لا يضر الحق شيئا، ولا يضرونك
في شيء، وإنما يضرون أنفسهم.
{
17 - 20
} {
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا
سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ *
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
}
لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة
للّه وحده، ويتذكر حال العابدين، كما قال في الآية الأخرى: {
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا
}
ومن أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة والسلام {
ذَا الْأَيْدِ
} أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه تعالى، في بدنه وقلبه. {
إِنَّهُ أَوَّابٌ
} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه، بالحب والتأله،
والخوف والرجاء، وكثرة التضرع والدعاء، رجاع إليه عندما يقع منه بعض
الخلل، بالإقلاع والتوبة النصوح.
ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر اللّه الجبال معه، تسبح معه بحمد
ربها {
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
} أول النهار وآخره.
{
و
} سخر {
الطَّيْرَ مَحْشُورَةً
} معه مجموعة {
كُلٌّ
} من الجبال والطير، لله تعالى {
أَوَّابٌ
} امتثالا لقوله تعالى: {
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
} فهذه مِنَّةُ اللّه عليه بالعبادة.
ثم ذكر منته عليه بالملك العظيم فقال: {
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
} أي: قويناه بما أعطيناه من الأسباب وكثرة الْعَدَد والْعُدَدِ التي بها
قوَّى اللّه ملكه، ثم ذكر منته عليه بالعلم فقال: {
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
} أي: النبوة والعلم العظيم، {
وَفَصْلَ الْخِطَابِ
} أي: الخصومات بين الناس.
{
21 - 26
} {
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ
دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا
تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ
تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ
أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ
مَآبٍ * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
}
لما ذكر تعالى أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا
بذلك مقصودا، ذكر تعالى نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة
لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه
القضية، فقال لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم: {
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ
} فإنه نبأ عجيب {
إِذْ تَسَوَّرُوا
} على داود {
الْمِحْرَابَ
} أي: محل عبادته من غير إذن ولا استئذان، ولم يدخلوا عليه مع باب، فلذلك
لما دخلوا عليه بهذه الصورة، فزع منهم وخاف، فقالوا له: نحن {
خَصْمَانِ
} فلا تخف {
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
} بالظلم {
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ
} أي: بالعدل، ولا تمل مع أحدنا {
وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
}
والمقصود من هذا، أن الخصمين قد عرف أن قصدهما الحق الواضح الصرف، وإذا
كان ذلك، فسيقصان عليه نبأهما بالحق، فلم يشمئز نبي اللّه داود من
وعظهما له، ولم يؤنبهما.
فقال أحدهما: {
إِنَّ هَذَا أَخِي
} نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن
بغيه الصادر منه أعظم من غيره. {
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
} أي: زوجة، وذلك خير كثير، يوجب عليه القناعة بما آتاه اللّه.
{
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
} فطمع فيها {
فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
} أي: دعها لي، وخلها في كفالتي. {
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
} أي: غلبني في القول، فلم يزل بي حتى أدركها أو كاد.
فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما،
أن هذا هو الواقع، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر، فلا وجه للاعتراض بقول
القائل: {
لم حكم داود، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر
} ؟ {
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
} وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم، فقال: {
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
} لأن الظلم من صفة النفوس. {
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح، يمنعهم من الظلم. {
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ
} كما قال تعالى {
وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
} {
وَظَنَّ دَاوُدُ
} حين حكم بينهما {
أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
} أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه {
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
} لما صدر منه، {
وَخَرَّ رَاكِعًا
} أي: ساجدا {
وَأَنَابَ
} للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة.
{
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
} الذي صدر منه، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات، فقال: {
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
} أي: منزلة عالية، وقربة منا، {
وَحُسْنَ مَآبٍ
} أي: مرجع.
وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة
إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا
من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه
قبلها.
{
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
} تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية، {
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
} أي: العدل، وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة
على تنفيذ الحق، {
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
} فتميل مع أحد، لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر {
فَيُضِلَّكَ
} الهوى {
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} ويخرجك عن الصراط المستقيم، {
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} خصوصا المتعمدين منهم، {
لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
} فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن.
{
27 - 29
} {
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ
النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
}
يخبر تعالى عن تمام حكمته في خلقه السماوات والأرض، وأنه لم يخلقهما
باطلا، أي: عبثا ولعبا من غير فائدة ولا مصلحة.
{
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
} بربهم، حيث ظنوا ما لا يليق بجلاله. {
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
} فإنها التي تأخذ الحق منهم، وتبلغ منهم كل مبلغ.
وإنما خلق اللّه السماوات والأرض بالحق وللحق، فخلقهما ليعلم العباد كمال
علمه وقدرته وسعة سلطانه، وأنه تعالى وحده المعبود، دون من لم يخلق مثقال
ذرة من السماوات والأرض، وأن البعث حق، وسيفصل اللّه بين أهل الخير
والشر.
ولا يظن الجاهل بحكمة اللّه أن يسوي اللّه بينهما في حكمه، ولهذا قال: {
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ
كَالْفُجَّارِ
} هذا غير لائق بحكمتنا وحكمنا.
{
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
} فيه خير كثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور
يستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة
القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
{
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
} أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها
ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة
الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر
القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من
سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
{
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
} أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا
على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب.
{
30 - 40
} {
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ
وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ
* وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ
فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
}
لما أثنى تعالى على داود، وذكر ما جرى له ومنه، أثنى على ابنه سليمان
عليهما السلام فقال: {
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
} أي: أنعمنا به عليه، وأقررنا به عينه.
{
نِعْمَ الْعَبْدُ
} سليمان عليه السلام، فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو {
إِنَّهُ أَوَّابٌ
} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة
والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة اللّه، وتقديمها على كل شيء.
ولهذا، لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي: التي من وصفها
الصفون، وهو رفع إحدى قوائمها عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال
معجب، خصوصا للمحتاج إليها كالملوك، فما زالت تعرض عليه حتى غابت الشمس
في الحجاب، فألهته عن صلاة المساء وذكره.
فقال ندما على ما مضى منه، وتقربا إلى اللّه بما ألهاه عن ذكره، وتقديما
لحب اللّه على حب غيره: {
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ
} وضمن {
أحببت
} معنى {
آثرت
} أي: آثرت حب الخير، الذي هو المال عموما، وفي هذا الموضع المراد الخيل
{
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
}
{
رُدُّوهَا عَلَيَّ
} فردوها {
فَطَفِقَ
} فيها {
مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
} أي: جعل يعقرها بسيفه، في سوقها وأعناقها.
{
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
} أي: ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته
الطبيعة البشرية، {
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا
} أي: شيطانا قضى اللّه وقدر أن يجلس على كرسي ملكه، ويتصرف في الملك في
مدة فتنة سليمان، {
ثُمَّ أَنَابَ
} سليمان إلى اللّه تعالى وتاب.
فـ {
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
} فاستجاب اللّه له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكا لم يحصل لأحد من
بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر،
يستخرجون الدر والحلي، ومن عصاه منهم قرنه في الأصفاد وأوثقه.
وقلنا له: {
هَذَا عَطَاؤُنَا
} فَقَرَّ به عينا {
فَامْنُنْ
} على من شئت، {
أَوْ أَمْسِكْ
} من شئت {
بِغَيْرِ حِسَابٍ
} أي: لا حرج عليك في ذلك ولا حساب، لعلمه تعالى بكمال عدله، وحسن
أحكامه، ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة، بل له في الآخرة
خير عظيم.
ولهذا قال: {
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
} أي: هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع الكرامات للّه.
فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلام
فمنها: أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من
قبله، ليثبت فؤاده وتطمئن نفسه، ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم
وإنابتهم، ما يشوقه إلى منافستهم، والتقرب إلى اللّه الذي تقربوا له،
والصبر على أذى قومه، ولهذا - في هذا الموضع - لما ذكر اللّه ما ذكر من
أذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به، أمره بالصبر، وأن يذكر عبده داود
فيتسلى به.
ومنها: أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته، قوة القلب والبدن، فإنه
يحصل منها من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها، ما لا يحصل مع الوهن وعدم
القوة، وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها، وعدم الركون إلى الكسل
والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس.
ومنها: أن الرجوع إلى اللّه في جميع الأمور، من أوصاف أنبياء اللّه وخواص
خلقه، كما أثنى اللّه على داود وسليمان بذلك، فليقتد بهما المقتدون،
وليهتد بهداهم السالكون {
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ
}
ومنها: ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلام، من حسن الصوت العظيم،
الذي جعل اللّه بسببه الجبال الصم، والطيور البهم، يجاوبنه إذا رجَّع
صوته بالتسبيح، ويسبحن معه بالعشي والإشراق.
ومنها: أن من أكبر نعم اللّه على عبده، أن يرزقه العلم النافع، ويعرف
الحكم والفصل بين الناس، كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السلام.
ومنها: اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل
بفتنته إياهم وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور، ويعودون إلى أكمل من
حالتهم الأولى، كما جرى لداود وسليمان عليهما السلام.
ومنها: أن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما
يبلغون عن اللّه تعالى، لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك، وأنه قد
يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي، ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم
بلطفه.
ومنها: أن داود عليه السلام، [كان] في أغلب أحواله ملازما محرابه لخدمة
ربه، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب، لأنه كان إذا خلا في محرابه لا
يأتيه أحد، فلم يجعل كل وقته للناس، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام، بل
جعل له وقتا يخلو فيه بربه، وتقر عينه بعبادته، وتعينه على الإخلاص في
جميع أموره.
ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم، فإن
الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود،
فزع منهم، واشتد عليه ذلك، ورآه غير لائق بالحال.
ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا
ينبغي.
ومنها: كمال حلم داود عليه السلام، فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير
استئذان، وهو الملك، ولا انتهرهما، ولا وبخهما.
ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه "أنت ظلمتني" أو "يا ظالم" ونحو ذلك أو
باغ علي لقولهما: {
خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
}
ومنها: أن الموعوظ والمنصوح، ولو كان كبير القدر، جليل العلم، إذا نصحه
أحد، أو وعظه، لا يغضب، ولا يشمئز، بل يبادره بالقبول والشكر، فإن
الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب ولم يثنه ذلك عن الحق، بل حكم
بالحق الصرف.
ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب، وكثرة التعلقات الدنيوية
المالية، موجبة للتعادي بينهم، وبغي بعضهم على بعض، وأنه لا يرد عن ذلك
إلا استعمال تقوى اللّه، والصبر على الأمور، بالإيمان والعمل الصالح، وأن
هذا من أقل شيء في الناس.
ومنها: أن الاستغفار والعبادة، خصوصا الصلاة، من مكفرات الذنوب، فإن
اللّه، رتب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده.
ومنها: إكرام اللّه لعبده داود وسليمان، بالقرب منه، وحسن الثواب، وأن لا
يظن أن ما جرى لهما منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى، وهذا من تمام لطفه
بعباده المخلصين، أنه إذا غفر لهم وأزال أثر ذنوبهم، أزال الآثار
المترتبة عليه كلها، حتى ما يقع في قلوب الخلق، فإنهم إذا علموا ببعض
ذنوبهم، وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى، فأزال اللّه تعالى هذه
الآثار، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار.
ومنها: أن الحكم بين الناس مرتبة دينية، تولاها رسل اللّه وخواص خلقه،
وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي
العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها
في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له
الإقدام عليه.
ومنها: أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بال، فإن النفوس
لا تخلو منه، بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده، وأن يلقي عنه وقت
الحكم كل محبة أو بغض لأحد الخصمين.
ومنها: أن سليمان عليه السلام من فضائل داود، ومن منن اللّه عليه حيث
وهبه له، وأن من أكبر نعم اللّه على عبده، أن يهب له ولدا صالحا، فإن كان
عالما، كان نورا على نور.
ومنها: ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله {
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
}
ومنها: كثرة خير اللّه وبره بعبيده، أن يمن عليهم بصالح الأعمال ومكارم
الأخلاق، ثم يثني عليهم بها، وهو المتفضل الوهاب.
ومنها: تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء.
ومنها: أن كل ما أشغل العبد عن اللّه، فإنه مشئوم مذموم، فَلْيُفَارِقْه
ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له.
ومنها: القاعدة المشهورة "من ترك شيئا لله عوضه اللّه خيرا منه" فسليمان
عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس، تقديما لمحبة اللّه،
فعوضه اللّه خيرا من ذلك، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة، التي تجري
بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين، أهل
الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون.
ومنها: أن تسخير الشياطين لا يكون لأحد بعد سليمان عليه السلام.
ومنها: أن سليمان عليه السلام، كان ملكا نبيا، يفعل ما أراد، ولكنه لا
يريد إلا العدل، بخلاف النبي العبد، فإنه تكون إرادته تابعة لأمر اللّه،
فلا يفعل ولا يترك إلا بالأمر، كحال نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم،
وهذه الحال أكمل.
{
41 - 44
} {
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ
بَارِدٌ وَشَرَابٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث